في أقصى جنوب مدينة الخليل بالضفة الغربية، لجأ فلسطينيون إلى اتخاذ الكهوف القديمة ملاذاً أخيراً للسكن، واختاروا الحياة البدائية سبيلاً للعيش، لكنهم رغم ذلك ما يزالون ملاحقين حتى في كهوفهم من قبل من سرق أرضهم وأعادهم مئات أو آلافاً من السنين إلى الوراء.
فبعد رحلة طويلة من الملاحقة والعذاب والمواجهة، استقر سكان خربة "سوسيا" قرب بلدة يطا جنوب الخليل على ما تبقى لهم من أرض، بعد أن نهشها الاحتلال مع تقدم سني احتلاله للأرض الفلسطينية، متغلبين بصمودهم على حياة القحط والفقر والعوز التي صنعتها إجراءاته ومخططاته الاستعمارية.
وعندما وصلنا إلى ذلك المكان، استوقفنا ذاك المشهد المثير لعشرات المباني والشوارع الالتفافية الضخمة التي تؤدي إلى تلك المستوطنة وكأنك تدخل مدينة ترمز بإتقان تصميمها لكل معاني السلام، لكن خلفها تختفي فصول معاناة أليمة لسكان فلسطينيين يتخذون الكهوف والمغارات بيوتاً وملاجئ، يسترون بها سوءات زمانهم الأليم.
ولا يخطر ببالك بعدما تشاهد بيوتاً بنيت على الطراز الحديث في مستوطنة سرقت حتى اسم الخربة، ومنشآت زراعية تستخدم فيها أحدث الآلات، وسيارات فخمة تخوض بحر الشوارع المستوية، وبعد أمتار قليلة من هذه المستوطنة تظهر الحقيقة المؤلمة لتجد عشرات الفلسطينيين يكافحون في أرضهم من أجل البقاء.
خربة أثرية
ويقول خبير الاستيطان عبد الهادي حنتش إن خربة "سوسيا" تعتبر منطقة أثرية قديمة، استولى عليها الاحتلال عام 1967، وبنى فيها تجمعا استعمارياً ومتنزهاً وكنيساً يهودياً، مشيراً إلى أن الخربة يقطن بها الآن عدد قليل جداً من السكان موزعين على عائلتي النواجعة والهريني، وتعتبر من الأراضي التابعة لمنطقة يطا.
ويضيف " إن المستوطنة اليهودية تقع على الجزء الشمالي من أراضي الخربة، ويحظر الاحتلال دخول الفلسطينيين لأراضيهم التي تقام عليها المستوطنة ومحيطها بمسافات واسعة، فيما سمح للمستوطنين "مطلقي الحرية" باستغلال مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية التي استولوا عليها ويقومون الآن بزراعتها.
وأوضح حنتش أن هناك أراضٍ استولى عليها المستوطنون، وصدر قراراً من محكمة العدل العليا الإسرائيلية بإعادتها لأصحابها الفلسطينيين، إلا أن الشرطة الإسرائيلية رفضت تسليمها لأصحابها وتوفير الحماية للمستوطنين الذين يسيطرون عليها.
ولفت إلى أن كثيرا من سكان المنطقة يسكنون الكهوف ويمنع وصولهم إلى كافة أنحاء خربتهم، فيما أجبروا على اتخاذ حياة عوز وكفاف منع من التقدم لشبر واحد على أرضهم، وسط تهديد مستمر لمن تبقى منهم بالسجن والطرد عن أرضهم، بينما يصرون على الصمود على أرضهم وعدم الرحيل عنها.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الاحتلال يمنعهم كذلك من بناء أية غرفة أو بيت أو سقيفة يعيشون بها، واضطروا للسكن في الكهوف مساكن ثابتة لهم والخيام والبنايات المؤقتة مأوى، بعد أن حرموا من العيش فوقها بأمان وحرية.
وفوق ذلك، لوحق السكان حتى في كهوفهم، حيث هدمت قوات الاحتلال كثيراً منها، فضلاً عن آبار المياه والاستيلاء على مياهها وبيعها لأصحابها الأصليين مرة أخرى.
كهوف وخيم
وكانت قوات الاحتلال أعلنت عام 1985 الخربة منطقة أثرية، وحظرت دخول المواطنين إليها، وحظرت أية أعمال بناء بالقرب منها بحجة حماية ارثها، في وقت سمحت فيه بإقامة منشآت استيطانية لها.
وذكرت مصادر محلية أن الاحتلال حاول أكثر من مرة إخلاء سكان الكهوف في المنطقة، كما حصل في خربة الطوبا المجاورة للخربة وفي سوسيا نفسها أيضاً.
وأوضحت أن المستوطنين اعتدوا أكثر من مرة على السكان هناك، وكررت جماعات يهودية اعتداءها بالضرب بالهراوات على نساء ورجال ومسنين قاطنين في الخربة، وأصيب أكثر من مرة عدد من السكان بجراح متفاوتة.
واستهدف المستوطنون رعاة الأغنام أكثر من مرة لمعرفتهم بأهمية رعي الماشية كمصدر رزق رئيسي لأهالي الخربة، لتخويفهم ومنعهم من التجول في أنحاء المنطقة وأصابوهم بجروح ورضوض، بينما رصدت عدسة جمعية بتسيلم بعض هذه الاعتداءات ونشرتها للإعلام.
وتشير آخر إحصائية أجرتها مؤسسة بتسيلم أن عدد المستوطنين القاطنين في مستوطنة "سوسيا" بلغ نهاية عام 1996 حوالي (359) مستوطناً، بينما بلغ نهاية عام 2007 قرابة (754) مستوطناً.
حماية الأرض
ويقول المواطن خالد حماد النواجعة الذي يقطن بيتاً بسيطاً مصنوعاً من الأخشاب ومغطىً بالبلاستيك:" إنه يسكن في المنطقة منذ عشرات السنين، ويسكن قريباً من بيته مواطنون آخرون من عائلته، قبالة برج مراقبة إسرائيلي، وله أقرباء يسكنون في بلدة "يطا" القريبة، ويقوم بتربية الماشية والأغنام".
ويشير إلى أن وجوده في الأرض سيتواصل بهدف حمايتها، فهو صامد رغم بيته الخشبي المتواضع ولن يتنازل، مطالباً بأن يكون هناك تحرك حقيقي لإنقاذ أهل الخربة من معاناتهم وعدم تركهم وحيدين في مواجهة "غول" الاستعمار اليهودي.
وقال :" إن عشرات الدونمات تم الاستيلاء عليها، وتتمثل الأراضي الزراعية المحظور دخولها في أرض الهدار والمهاياة وتتكون من أودية وسهول زراعية".
وأضاف النواجعة أنه كان يسمح للمزارعين وأصحاب تلك الأراضي بدخولها واستغلالها كمراع للأغنام، وفي زراعة المحاصيل الزراعية حتى شهور قليلة، لكن قرار الاحتلال الأخير بحق الأرض وملاكها حرمهم من كل شئ.
